فصل: فصل في بيع الخيار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في بيع الخيار:

أي: الشرطي وهو كما لابن عرفة بيع وقف بته أولاً على إمضاء يتوقع إلخ. فقوله: أولاً متعلق بوقف وخرج به الخيار الحكمي أي خيار النقيصة فإن بته لم يوقف أولاً بل آخراً. فيقال: فيه بيع آيل إلى خيار فهو متأخر عن العقد، وسببه متقدم عليه بخلاف الخيار الشرطي فموجبه الذي هو الشرط مقارن للعقد. (والثنيا) أي وبيع الثنيا وهي خيار في الحقيقة إلا أنه شرط النقد فيه فالخيار إذا لم يشترط فيه نقد الثمن ليس بثنيا، وإن اشترط فيه ذلك وشرط معه أنه إن أتاه بالثمن فمبيعه مردود عليه فهو الثنيا قال فيها: من ابتاع سلعة على أن البائع متى رد له الثمن فالسلعة له لا يجوز بيعه لأنه سلف جر نفعاً. اهـ. وهذا المعنى هو الذي خصه الأكثر بالثنيا وهو المعروف اليوم بذلك وإن كان ابن رشد: عممه في جميع الشروط المنافية للمقصود.
بَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزُ الْوُقُوعِ ** لأَجَلٍ يَلِيقُ بِالْمَبِيعِ

(بيع الخيار) الذي يشترطه أحد المتبايعين على الآخر أو كل منهما على صاحبه أو جرت العادة باشتراطه لأنها كالشرط صراحة كما في (ز) (جائز الوقوع) حيث كان الخيار مضروباً (لأجل) معلوم (يليق بالمبيع:
كَالشَّهْرِ في الأَصْلِ وَبالأَيَّامِ ** في غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ وَالطّعَامِ

كالشهر في الأصل) من دار ونحوها وأدخلت الكاف ما زاد على الشهر بالشيء اليسير كالخمسة الأيام والستة (و) يؤجل (بالأيام) القلائل (في غيره) أي الأصل (كالعبد) فيؤجل الخيار فيه بالجمعة ونحوها، وفي الدابة والثوب يؤجل الثلاثة الأيام ونحوها. (والطعام) الذي لا يفسد ويحتاج فيه الناس للمشورة يكون أجل الخيار فيه بقدر حاجة الناس مما لا يقع فيه تغيير ولا فساد قاله في المدونة. فقوله: لأجل أي معلوم كما في الأمثلة احترازاً من المجهول ككونه بالخيار إلى قدوم زيد أو إلى أن ينفق سوق السلعة الفلانية ولا وقت يعلم قدومه فيه أو نفاق سوق تلك السلعة فيه، فإن البيع فاسد يرد مع القيام ويمضي بالقيمة مع الفوات، ومفهوم قوله لأجل إنه إذا وقع بالخيار ولم يضربا له أجلاً معلوماً ولا مجهولاً يكون فاسداً وليس كذلك ففيها من ابتاع شيئاً بالخيار ولم يضربا له أجلاً جاز البيع وجعل له من الأمد ما ينبغي في تلك السلعة. اهـ. فكتب عليه أبو الحسن ما نصه معناه: إذا عثر عليه قبل مضي أمد الخيار، وأما إن لم يعثر عليه حتى مضى القدر الذي يضرب لتلك السلعة فإن الإمام يوقفه فأما أن يختار أو يرد. اهـ.
قلت: هذا ظاهر إذا عثر عليه عند انقضاء الأمد المذكور، وأما إن لم يعثر عليه حتى زاد على أمده بكثير فيظهر فساد البيع فتأمله والله أعلم. وإذا علمت هذا وجب أن يعلق قوله لأجل ببيع أو بالخيار لا بمحذوف شرط في الجواز كما هو ظاهره وقررناه عليه، والتقدير بيع الخيار لأجل معلوم يليق بالمبيع جائز الوقوع، فهو حينئذ ساكت عن بيع الخيار الذي لم يضرب له أجل فيستظهر عليه من خارج.
وهُوَ بِالاشْتِرَاطِ عِنْدَ الْعَقْدِ ** وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ النَّقْدِ

(وهو) أي الخيار (بالاشتراط عند العقد) كما تقدم في حد ابن عرفة فإن لم يشترط فلا خيار ولو بالمجلس على مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وهو قول الفقهاء السبعة المجموعين في قول القائل:
ألا كل من لا يقتدي بأئمه ** فقسمته ضيرى عن الحق خارجه

فخذهم عبيد الله عروة قاسم ** سعيد أبو بكر سليمان خارجه

وخالف الشافعي في ذلك متمسكاً بما ورد في الصحح من قوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا). ووافقه على ذلك ابن حبيب وعبد الحميد الصائغ ولما ذكر أبو الحسن الحديث الكريم قال: حمل الشافعي الافتراق في الحديث على الافتراق بالأبدان، وحمله مالك على الافتراق باللفظ. اهـ. ولما ذكر مالك الحديث في موطئه قال: والعمل عندنا على خلافه أي عمل أهل المدينة على خلافه، وإلى رد مذهب الشافعي ومن وافقه أشار (خ) بقوله: إنما الخيار بشرط كشهر في دار ولا تسكن وكجمعة في رقيق واستخدمه وكثلاثة في دابة إلخ. (ولا يجوز فيه) أي في بيع الخيار (شرط النقد) وظاهره أنه يفسد البيع باشتراطه لأن الأصل فيما ل يجوز الفساد وهو كذلك، وإن لم يحصل النقد بالفعل على المعتمد لتردده مع حصوله بشرط بين السلفية والثمينة ولكون الغالب مع شرطه فقط حصوله فنزل الغالب، وإن لم ينقد فيه حتى مضى زمن الخيار منزلة النقد بالفعل قاله (ز) وظاهره أيضاً أنه لا يصح البيع ولو حذف الشرط وهو كذلك بخلاف مسألة البيع بشرط السلف فإن البيع يصح إذا حذف الشرط كما قال (خ): وصح أن حذف إلخ. والفرق أن الغرر في شرط النقد أقوى إذ لا يدري هل المقبوض كله ثمن أو سلف بخلاف البيع بشرط السلف فثمن السلعة مقبوض، والسلف وإن أثر في الثمن زيادة أو نقصاً فتأثيره موهوم غير محقق إذ يجوز أن يكون الثمن المجعول للسلعة هو ثمنها المعتاد لرغبة المشتري في السلعة يدفع ثمنها المعتاد ويزيده السلف، أو لرغبة البائع في معاملة المشتري لاتصافه ونحو ذلك يبيعها بالمعتاد ويزيده السلف فغرر البيع، والسلف أضعف من الأول كما هو ظاهر، وهذا مراده في ضيح بأن الفساد في مسألة البيع موهوم خارج عن الماهية أي موجب الفساد موهوم لا محقق بخلاف مسألة النقد بشرط، وأما قوله: خارج عن الماهية فلعل الصواب حذفه إلا أن يقال إنه تأكيد لما قبله لأنه إذا لم يتحقق وجوده في الماهية فهو خارج عنها فتأمله والله أعلم. ومفهوم شرط أنه إذا تطوع له بالنقد لم يمنع وهو كذلك، وفهم منه أنه يجوز النقد بعد العقد تطوعاً وهو كذلك، وفهم من تحديده أجل الخيار بما مر من الشهر والأيام أنه إذا زاد أجل الخيار على ذلك وعلى ما قرب منه يكون البيع فاسداً وهو كذلك (خ) وفسد بشرط مشاورة بعيد عن أمد الخيار، أو مدة زائدة أو مجهولة أو غيبة أحدهما على ما لا يعرف بعينه أو لبس ثوب ورد أجرته ويلزم بانقضائه ورد في كالغد وبشرط نقد إلخ. ثم إذا فسد بواحد من هذه الأمور فضمانه من بائعه إن هلك ولو بيد المشتري على الراجح، وقيل: من المشتري إن قبضه انظر (ح) ولا بد، وقول (خ): ويلزم بانقضائه الخ أي بانقضاء أمده المشترط وانقضاء ما ألحق به من اليوم واليومين. وقوله: وورد في كالغد إنما هو في الزمن الملحق فلا تدافع في كلامه. قال في المدونة: وإن كان أي الرد بعد غروب الشمس من آخر أيام الخيار أو كالغد أو قرب ذلك فذلك له. قال أبو الحسن: يعني بالقرب اليوم واليومين والبعد ثلاثة أيام. اهـ. وتقدم أن الخمسة أيام ملحقة بالشهر يعني في الدار يجوز أن يشترط في أجل خيارها شهر أو خمسة أيام مثلاً، والكلام هنا فيما قرب من زمن الانقضاء يعني أنه إذا رد بعد انقضاء الأجل المشترط بيوم أو يومين فله ذلك فلا معارضة والله أعلم. وقد قال أبو الحسن عند قولها في الضمان إن قال للطالب فإن لم أوافك غداً فالذي تدعيه حق، فهذه مخاطرة ولا شيء عليه ما نصه. وانظر ما قاله في بيع الخيار إذا كان الخيار للمبتاع فشرط عليه البائع أنه إن لم يأت بالثوب في آخر أيام الخيار لزمه البيع لم يجز هذا البيع. أرأيت إن مرض أو حبسه سلطان. اهـ.
والْبَيْعُ بِالثُّنْيَا لِفَسْخِ دَاعِ ** والخَرْجُ بِالضَّمَانِ لُلْمُبْتَاعِ

(والبيع بالثنيا) أي بشرطها بأن يقول له في صلب العقد: أبيعك هذه السلعة على شرط أني إن أتيتك بثمنها وقت كذا أو مهما أتيتك بثمنها فهي مردودة علي (لفسخ داع) لفساده واختلف في علته فعلله في بيوع الآجال منها بالبيع والسلف. أبو الحسن: معناه تارة يكون بيعاً وتارة يكون سلفاً أي لأنه خيار بشرط النقد وجعلا مدته أكثر من مدة الخيار إن حداه بأجل أو لمدة مجهولة إن لم يحداه، وعلله سحنون وابن الماجشون وغيرهما بأنه سلف جر نفعاً، وبه عللت المدونة أيضاً في نصها الأول عند قوله: والثنيا إلخ. وعلى الأول فهو بيع فاسد يفسخ ولو أسقط الشرط على المذهب كما مر ما لم يفت فيمضي بالقيمة وفوات الأصول بالهدم والبناء والغرس لا بحوالة الأسواق، وهل يفوت بطول الزمان كالعشرين سنة؟ قولان. أرجحهما على ما قاله (ت) في تحفة الإخوان فواته بذلك، وقال في المهذب الرائق: ولا يفيت الأصول حوالة الأسواق ولا طول الزمان وبه القضاء. قال ابن أبي زمنين: إلا ما كان مثل عشرين عاماً ونحوها. اهـ. وعلى الثاني فهو رهن يفسخ أبداً ولا يفوت بشيء بهدم ولا غيره ويرد المشتري فيه الغلة ولو طال الزمان، والناظم درج على الأول لأنه المشهور المعمول به في وقته ولذا قال: (والخرج) بسكون الراء لغة في الخراج اجتمعتا في قوله تعالى: {أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير} (المؤمنون: 72) (بالضمان للمبتاع) ظاهره كان لأجل أم لا. أي الغلة فيه للمشتري لأنه بيع فاسد ينتقل ضمانه بالقبض، ومن عليه الضمان فله الغلة إلا ثمرة مأبورة يوم الشراء فإنها ليست بغلة لأن لها حصة من الثمن فيجب ردها معه إن كانت قائمة ورد مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت أو جذت رطباً.
ولا كِرَاءَ فِيهِ هَبْهُ لأَجَلْ ** أوْ لاَ وَذَا الَّذِي به جَرَى العَمَلْ

(ولا كراء) ولا غلة (فيه) أي في بيع الثنيا ويفوز المشتري بالثمرة بالزهو وهو ظهور الحلاوة وإن ظهر في نخلة واحدة من نخيل كثير على المعروف من المذهب في فوز المشتري بالغلة في البيع الفاسد بذلك، وأما إن طابت فهو أحرى (هبه) أي بيعها (لأجل أو لا وذا) أي كونه لا كراء ولا غلة فيه للبائع على المشتري مطلقاً هو المشهور (الذي به جرى العمل) عند القضاة كم في مختصر المتيطية، وهو قول مالك وابن القاسم وعليه الأكثر، ومقابله أنه رهن لأنه سلف بمنفعة فالغلة للبائع لا للمبتاع قاله الشيخ أحمد زروق وهو المشهور. قال عبد الباقي: وهو ظاهر من جهة المعنى وهو توافقه مع المشتري على أن يرد له المبيع، وعلل أيضاً بأنها ثمن السلف وهو حرام محرم، وفي وثائق ابن مغيث عن القابسي أن حكمه قبل انقضاء أجل الثنيا حكم البيع الصحيح فالغلة فيه للبائع لأنه بمنزلة الرهن وهو بعد انقضاء الأجل بمنزلة البيوع الفاسدة. اهـ. أي: فالغلة فيه للمشتري وليس في هذا البيت زيادة على ما أفاده الشطر الذي قبله إلا ما أفاده من الخلاف والتعميم في نفي الغلة نصاً وجريان العمل.
تنبيهات:
الأول: يجب أن يقيد الخلاف المذكور بما إذا لم يجر العرف بالرهنية كما عندنا اليوم، ولذا يقع البيع بأقل من الثمن المعتاد بكثير ويسمونه بيعاً وإقالة فيبيع الرجل بالإقالة ما يساوي الألف بخمسمائة أو ما يساوي المائة بستين أو بثلاثين ونحو ذلك. فلا يختلفون أنها رهن حيث اشترطت الإقالة في العقد إذ لم يسمح البائع بسلعته إلا على ذلك وتجد البائع إذا سئل عن سلعته أو أرضه يقول: إنها مرهونة ويطلب زيادة الثمن فيها ويعرضها للبيع وهي بيد مشتريها، وإذا سئل المشتري عنها أيضاً قال: إنها مرهونة عندي أو عندي فيها بيع وإقالة وأن البائع لم يكمل البيع فيها ونحو ذلك فالبيع والإقالة عندهم مرادف للرهن يعبر بأحدهما عن الآخر، فعرف الناس اليوم ومقصودهم في هذا البيع إنما هو الرهنية كما هو مشاهد بالعيان، وإذا كان العرف فيها الرهنية فيتفق على رد الغلة وعدم الفوات لأن الأحكام تدور مع الأعراف ومقاصد الناس ومن أدل دليل على الرهنية كونه بأقل من الثمن المعتاد بكثير إلى غير ذلك وقد قالوا كما للقرافي وغيره: إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ والجور، ولهذا لما سئل الإمام قاضي القضاة سيدي عيسى السجستاني حسبما في نوازله عن بيع الثنيا في هذا الزمان هل تفوت بأنواع التفويت لأنها بيع فاسد، وكيف إذا جهل قصد المفوت؟ فقال: الذي أفتي به في بياعات نواحي سوس وجبال درن أنها رهون لأنهم يعتقدون أنها على ملك بائعها ويطلبون فيها زيادة الأثمان والمبيع بيد مشتريه، وإذا كان هكذا فلا يفوت بشيء بل هي على ملك الأول إلا أن يرضى بإمضاء البيع فيها والسلام. اهـ. بلفظه. ولا يخفى أنها في نواحي فاس وجبالها كذلك ولا يشك منصف فيه والله أعلم. وفي نوازل الزياتي أيضاً ما نص الغرض منه: سئل بعض الفقهاء عن الغلة في بيع الثنيا وكيف الحكم إن كان عرف البلد الرهنية إلا أنهما تحيلا بكتب البيع مخافة الغلة؟ فأجاب: في المسألة قولان. قيل: الغلة للمشتري، وقيل: للبائع. وأما إن كان عرف البلد أنهم يعتقدون الثنيا في بيوتهم ويتحرفون بكتب البيع مخافة الغلة فإن الغلة لازمة للمشتري قولاً واحداً مع يمين الراهن أنه كان رهناً في نفس الأمر، وبهذا صدرت الفتوى من أهلها. اهـ. بلفظه، وفيه أيضاً عن سيدي علي بن هارون ما نصه: اختلف في بيع الثنيا فقيل إنه من باب البيع الفاسد، وقيل إنه سلف جر منفعة وهو الذي يترجح في هذا البيع لأن مقصود الناس أن يأكلوا الغلة في مقابلة السلف الذي سموه ثمناً ثم قال: فعلى قول ابن القاسم لا يرد الغلة وعلى قول غيره يردها، ويترجح هذا القول كما قدرناه ليعرف الناس والله أعلم. وكتبه علي بن هارون. اهـ. باختصار. وهذا مما لا يمكن أن يختلف فيه اثنان في هذه الأزمان لأن العرف كالشرط بلا نزاع، وانظر ما يأتي قريباً عند قوله: فالقول قول مدع للطوع إلخ. فإن فيه تأييداً لما قلناه والله أعلم.
الثاني: يفهم من قول الناظم وغيره: والخرج بالضمان إلخ. أن الغلة إنما تكون للمشتري على القول بأنها بيع فاسد إذا قبض ذلك المبيع لأن الضمان إنما ينتقل للمشتري في الفاسد بالقبض كما في (خ) وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض ورد ولا غلة تصحبه إلخ. وأما إذا لم يقبض المشتري ذلك المبيع بل تركه بيد البائع بإجارة أو اشترى منه البستان ونحوه بالثنيا وتركه بيده بمساقاة ونحوها ليأتيه بغلته، فإنه لا غلة للمشتري قولاً واحداً لأنه لم ينتقل ضمانه إليه، وسواء كان الشراء بالثمن المعتاد أو بأقل بكثير أو قليل بدليل التعليل بل لو قبضه ثم رده إليه بعقد إجارة أو مساقاة أو نحوهما لم تكن له غلة لأن ما خرج من اليد عاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال قاله (ح).
الثالث: على القول بأنه بيع فاسد إذا وقع الإمضاء فيه قبل فسخ العقد الفاسد فإنه لا يصح لأنه تتميم للفساد. قال أبو الحسن: المنصوص في كل موضع أن البيع الفاسد لا يصح إمضاء البيع فيه إلا بعد فسخ العقدة الفاسدة، وإذا لم يتعرض لفسخها فسخت الثانية وبقيت الأولى على فسادها. اهـ.
وَالشَّرْحُ لِلثُنْيَا رُجُوعُ ملْكِ مَنْ ** بَاعَ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الثَّمَنْ

(والشرح للثنيا) أي لحقيقتها وماهيتها هو (رجوع ملك من باع إليه) أي إلى البائع (عند إحضار) البائع (الثمن) ودفعه للمشتري كما تقدم في نص المدونة، وعليه الأكثر خلافاً لابن رشد حيث عممها في بياعات الشروط كما مرّ. وفي كلام الناظم مخالفة للترتيب الطبيعي إذ هو يقتضي تقديم هذا البيت على قوله: والبيع بالثنيا لفسخ داع إلخ. لأن التصور مقدم على الحكم طبعاً فينبغي تقديمه وضعاً كما قال في السلم:
إدراك مفرد تصوراً علم ** ودرك نسبة بتصديق وسم

وقدم الأول عند الوضع ** لأنه مقدم بالطبع

وتقديمه إنما هو على جهة الأولوية لا على جهة الوجوب، لأنه وارد في العربية، ولا يلزم عليه دور ولا غيره حتى يمنع فهو كقول (خ): يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد وكقوله في الدماء: واقتص من موضحة أوضحت عظم الرأس إلخ. وكقوله في الحديث: (لها كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان): فلو قالوا لا لأراهم إياها وصورها لهم، وإذا علمت هذا فالجواب عما ورد من ذلك بأنه من باب تقديم الحكم على التصوير لا على التصور، والممنوع إنما هو الثاني كما قالوه عند قول (خ): يرفع الحدث. إلخ. كله غير سديد، لأن ذلك إن كان بالنسبة للمخاطب كما هو المتبادر من كلامهم فالحكم واحد لما علمت من أن التصوير فعل الفاعل وهو أيضاً حد للصورة وشرحه إياها، والتصور حصول صورة الشيء في الذهن بسبب ذلك التصوير أو بغيره فيلزم من التصوير حصول الصورة، والمقدم على الأصل مقدم على الفرع، فيلزم من تقديمه على التصوير تقديمه على التصور، وإنما الجواب الحق أن يقال: تقديم الحكم على التصور بالنسبة للمخاطب غير ممنوع لأن المخاطب قد يكون تصور الشيء من جهة أخرى، وإذا لم يتصوره صوره له المتكلم بعد إن شاء أو إن سأله المخاطب عنه كما فعل الناظم و(خ) وإذا لم يسئل عنه لكونه مصوراً عنده لم يصوره له كما في الحديث، وليس هذا من باب إدخال الحكم في الحد حتى يكون ممنوعاً كما قال في السلم:
وعندهم من جملة المردود ** أن تدخل الأحكام في الحدود

لأن الناظم لم يدخل الحكم في الحد كما ترى، وإنما قدمه عليه والله أعلم. وإن كان ذلك بالنسبة للمتكلم فمن أين لنا بأن الناظم ونحوه لم يتصوره بل تصوره عند الحكم بالفسخ ثم صوره للغير بعد ذلك، وعليه فلا حاجة لهذا الإيراد بالكلية إذ لا يحكم أحد على غيره بأنه لم يتصور كذا وهو لم يطلع على ما في ضميره حتى يحتاج للجواب عنه، وحينئذ فقولهم لأن الحكم على الشيء فرع تصوره هذا صحيح بالنسبة للمتكلم إذا اطلعنا على ما في ضميره وأنه حكم قبل أن يتصور حقيقة الشيء المحكوم عليه فيقال له حينئذ: كان ينبغي لك أن لا تحكم على شيء حتى تتصوره، وأما بالنسبة للمخاطب فلا لأنه قد يحكم له على الشيء، ثم بعد ذلك يصور له ذلك الشيء إن لم يكن عرفه، وقد لا يصور له بالكلية لكونه قد عرفه من جهة أخرى أو يسأل عن حقيقته شخصاً آخر كقولهم: صحت الإجارة، وكقولهم صح وقف مملوك ونحو ذلك مما هو كثير فقد حكموا بالصحة قبل أن يصوروا المحكوم عليه للمخاطب لكونه معروفاً عنده، أو لكونه يسأل عنه الغير.
وَجَازَ إنْ وَقَعَ بَعْدَ العَقْدِ ** طَوْعاً بِحْدَ وَبِغَيْرِ حَدِّ

(وجاز) أي البيع بالثنيا (إن وقع) بين البائع والمشتري (بعد) انبرام (العقد) وتمامه (طوعاً) منهما (بحد) كقول المشتري للبائع: إن جئتني بالثمن لسنة أو عشرين سنة مثلاً فالمبيع مردود عليك (أو بغير حد) كقوله: متى جئتني بالثمن فالمبيع لك قال الفقيه راشد في جواب له نقله في المعيار: وهذه الإقالة يعني التطوع بها بعد العقد قد أجازوها إلى غير غاية وإلى غير حد مؤجل، وأجازوها أيضاً إلى أجل قريب أو بعيد. اهـ.
ثم إنه في المطلقة متى أتاه بالثمن لزمه رد المبيع إليه، ويجوز للمشتري فيه التفويت بالبيع أو غيره، ويفوت به على البائع المقال إلا أن يفيته بالفور مما يرى أنه أراد قطع ما أوجبه على نفسه كما لابن رشد، ونقله ابن عرفة وغيره وهو قول (خ) لا إن قصد بالبيع الإفاتة. قال ابن رشد القفصي: فإن قام عليه حين أراد التفويت فعلى السلطان منعه من تفويته إذا أحضره البائع الثمن فإن باعه بعد أن منعه السلطان رد وإن باعه قبل القضاء عليه بذلك نفذ البيع. اهـ. وأما في المقيدة فلا يجوز له تفويته فإن فوته رد على ما للموثقين، وقيده الباجي بما إذا لم يبعد أجلها كالعشرين سنة فيكون حكمها حكم المبهمة في فواتها على البائع وعدم ردها، وإذا جاءه البائع بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه بيوم ونحوه لا أكثر لزمه قبوله ورد المبيع على بائعه، ولا كلام له في أنه لا يقبض الثمن إلا بعد الأجل كما صرح به المتيطي والقفصي في وثائقهما، وصرح به أيضاً العبدوسي في جواب له، وانظر إذا لم يأت بالثمن حتى انقضى الأجل بأيام فلم يقبل منه وأراد القيام بالغبن هل تعتبر السنة من يوم البيع أو يوم الانقضاء وهو الظاهر لأنه اليوم الذي تم فيه البيع والله أعلم. ثم ما قررناه به من أن كلامه في الثنيا وهو ظاهر سياقه وبه يرتبط الكلام بعضه ببعض، ويحتمل على بعد أنه أشار إلى مسألة الخيار بعد البت المشار إليها بقول (خ): وصح بيع بت إلخ. ويكون المعنى وجاز الخيار إن وقع بعد العقد بأجل وبغير أجل، لكن إن وقع بغير أجل لابد أن يضربا له من الأجل ما يليق بذلك المبيع كما كر أول الفصل فقوله حينئذ: وبغير حد أي وقع الخيار بعد العقد ولم يتعرضا لأجل، لكن يضرب له من الأجل ما يليق بالمبيع كما مر ففيها من اشترى سلعة من رجل ثم جعل أحدهما لصاحبه الخيار بعد تمام البيع، فذلك جائز وهو بيع مؤتنف بمنزلة بيع المشتري لها من غير البائع إلخ.
تنبيهات:
الأول: قال ابن عرفة: لا أعلم مستنداً لأقوال الشيوخ بصحة الطوع بالثنيا بعد العقد لأن التزامها إن عد من جهة المبتاع عقداً بتاً فهو من جهة البائع خيار فيجب تأجيله لقولها: من اشترى من رجل سلعة إلى آخر ما مرّ قريباً مع قولها من ابتاع سلعة بالخيار ولم يضربا أجلاً جاز وضرب له من الأجل ما ينبغي في مثل تلك السلعة. اهـ. ونقله (ح) في التزاماته وقال عقبه. قلت: الظاهر أنه ليس هنا عقد بيع، وإنما هو معروف أوجبه على نفسه والله أعلم. اهـ.
قلت: مستندهم في ذلك ظاهر، وهو أن المشتري إنما أوجب على نفسه البيع عند الإتيان بالثمن كما قاله أبو الفضل راشد في جواب له طويل. ومحصله أنه لا يقع الإيجاب في الإقالة بنفس القول، وإنما يقع الإيجاب بعد المجيء بالثمن وأنه ليس في الحالة الراهنة إلا التزام وتعليق على وجه المعروف، وإنما يوجد البيع في ثاني حال حيث يوجد المعلق عليه.
الثاني: الثمرة المؤبرة الحادثة في الثنيا المتطوع بها بعد العقد كما هو موضوعنا للمشتري المقيل عملاً بقول (خ): ولا الشجر المؤبر إلخ. وأحرى إذا أزهت أو طابت، وقول ابن هلال في نوازله: والثمرة للبائع المقال مطلقاً أبرت أم لا. لأن المبتاع ألزم نفسه متبرعاً بأن البائع متى أتاه بالثمن فالمبيع مردود عليه، وقد فرقوا بين ما توجبه الأحكام وما يوجبه المرء على نفسه. اهـ. تعقبه بعض بأنه كلام غير صحيح لأن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة ونحوها، فإذا جاء المقال بالثمن فحينئذ يقع البيع كما مر عن أبي الفضل راشد فتكون الثمرة المأبورة للمقيل الذي هو المبتاع إلا أن يشترطها البائع الذي هو المقال. اهـ.
الثالث: إذا مات المتطوع بالثنيا قبل الأخذ بها بطلت كانت لأجل أو لغير أجل كما هو ظاهر إطلاقاتهم لأنها هبة لم تقبض قاله أبو الفضل راشد واختاره أبو الحسن. قال القوري حسبما في نوازل الزياتي وبه القضاء والفتوى، وقال أبو إبراهيم الأعرج. لا تبطل بناء على أنها بيع، وأما إذا مات البائع فوارثه بمنزلته اتفاقاً.
الرابع: إذا وقعت الإقالة مطلقة ولم يقل إن أتيتني بالثمن فأفتى فيها بعض بأنها إقالة لازمة للمشتري ولورثته قال: لأن القاعدة المذهبية أن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة ونحوها وعقود المعاوضات لا تفتقر إلى حيازة وليست هذه من ناحية من أوجب على نفسه الإقالة إذا أتى بالثمن الذي اختلف فيه أبو الفضل راشد وأبو إبراهيم للفرق الظاهر بين المطلقة والمقيدة من وجوه لا تخفى منها: أن الإقالة المختلف فيها بين من ذكر هبة لأنها تجوز لغير أجل بإجماع ولو كانت بيعاً لما جازت لغير أجل، والإقالة المطلقة بخلاف ذلك لأنها بيع يشترط فيها شروطه، ومنها: أن المقيدة إذا تصرف فيها المتطوع ببيع أو نحوه قبل أن يأتيه بالثمن مضى تصرفه حتى قال اللخمي: إن ذلك يجوز له ابتداء إذا وقعت لغير أجل ولو كانت بيعاً محضاً جاز له ذلك لأنه تصرف في ملك الغير، ومنها: أن المقيدة الغلة فيها للمشتري وعليه الضمان ما دام البائع لم يأته بالثمن وذلك دليل على أنها على ملكه بخلاف المطلقة فضمانها من المقال والغلة له من يوم العقد، وهذا أمر لا يختلف فيه. ومنها: أن المقيدة لم تقع فيها إقالة أصلاً وإنما وقع فيها تعليق إنشاء الإقالة عند الإتيان بالثمن، فإذا مات المشتري قبل الإتيان به فقد مات قبل وقوعها وقبل أن يخاطب بها فهي عند موته على ملكه وتنتقل إلى ورثته ففاتت كما تفوت إذا باعها المشتري المقيل، ولا كذلك المطلقة فإنها بيع قد تم بالإيجاب والقبول. اهـ. باختصار من خط أبي العباس الملوي رحمه الله.
الخامس: أن المبتاع إذا بنى في الدار أو غرس في الأرض بعد أن طاع بذلك للبائع وقبل انقضاء الأجل فقال ابن رشد: له قيمته منقوضاً لتعديه كما إذا بنى البائع في دار باعها على أن المبتاع بالخيار قبل انقضاء أمد الخيار أو بنى المبتاع قبل انقضاء أمد الخيار وكان الخيار للبائع. اهـ.
قلت: هذا إذا كانت مؤجلة بأجل، وأما إذا كانت غير مؤجلة فيفهم منه أن البناء والغرس فوت على المقال فلا سبيل له إليها بمنزلة البيع كما مر.
السادس: الشفعة ثابتة في هذا البيع الذي تطوع فيه بالإقالة، ولو حصلت الإقالة بالفعل ما لم يجر العرف بشرطية ذلك في العقد كما يأتي قريباً وإلاَّ فهو بيع فاسد لا شفعة فيه أصلاً إلا بعد فواته إن قلنا إنها رهن كما مر.
السابع: إذا أحضر البائع الثمن قبل انقضاء الأجل أو عنده أو أحضره في حياة المتطوع في المطلقة فلم يقبله المتطوع المذكور حتى مات أو انقضى الأجل بأيام فقال سيدي يحيى: المتقدم ذكره إذا أثبت البائع أو ورثته ذلك فإنه ينفعهم ويرد إليهم الأصل بذلك ولا يفوت عليهم بموته ولا بانقضاء الأجل.
الثامن: اختلف إذا باعه شيئاً عقاراً أو غيره وطلب البائع الإقالة فقال له: أخاف أن تبيعه لغيري فقال: إن أو إذا بعته لغيرك فهو لك بالثمن الأول وبالذي أبيعه به فأقاله المشتري، فإذا باعه البائع لغيره، فهو له، إن باعه بالقرب على ما في سماع ابن خالد لابن القاسم وابن كنانة لا إن باعها بعد بُعد، والقرب أن يبيعها في زمن تلحقه فيه التهمة، والبعد أن يبيعها بعد زمان تنقطع فيه التهمة عن البائع ويظهر منه حدوث رغبة في البيع كما في المتيطية، هذا إذا عبّر بأن أو إذا كما مرّ، وأما إذا عبر بمتى فهو له ولو باعه بعد بُعد لأن متى لا تقتضي قرب الزمان كما قاله ابن رشد قال: وإنما جاز هذا الشرط في الإقالة لأنها معروف، ولمحمد بن خالد أن الإقالة على هذا الشرط لا تجوز كالبيع. اهـ. البرزلي أوائل البيوع من ديوانه عن المازري، والمشهور من المذهب فساد هذه الإقالة لما في ذلك من التحجير وهي بيع من البيوع، فإذا نزلت فسخت الإقالة وإن طال ذلك وفاتت الأرض ونحوها بالبيع مضى البيع وفاتت الإقالة به لأنه بيع صحيح. اهـ. ثم ما تقدم من الفرق بين إن ومتى هو ما فهمه ابن رشد وفهم صاحب ضيح أنه لا فرق بينهما لأنه عبر بمتى وفرق بين القرب والبعد. وفي الالتزامات لابن رشد قول ثالث وهو أنه إن استقاله فقال: أخشى أنك إنما سألتني الإقالة أو البيع لربح ظهر لك لا لرغبة في المبيع فقال: بل لرغبتي فيه فأقاله أو باعه على أنه أحق به إن باعه فهو أحق به بالقرب وإن لم يقل له شيء من ذلك، وإنما أقاله أو باعه على أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن لم يجز ذلك في البيع، ويختلف في الإقالة لأن بابها المعروف لا المكايسة. اهـ. وقد تحصل أن في المسألة أقوالاً مشهورها الفساد، والثاني اختيار ابن رشد، والثالث صحة الإقالة ويفرق بين القرب والبعد، وهل يشترط أن يعبر بإن أو إذا لا بمتى وإلا لزمه الشرط، وإن باع بعد طول. وهو فهم ابن رشد أو مطلقاً وهو ظاهر كلام ضيح لأنه عبر بمتى وفرق بين القرب والعبد، وعلى القول بصحة الإقالة هنا تستثنى هذه المسألة ومسألة التطوع بها بعد العقد من قولهم: لا يقبل البيع تعليقاً كما قيل: لا يقبل التعليق بيع ونكاح.
فلا يصح بعت ذا إن جا فلاح والفرق بين هذه وبين التطوع بالإقالة حتى جرى في هذه خلاف، وجاز التطوع بإجماع ظاهر لأنه في التطوع التزم بعد العقد أن ينشئ المبيع عند الإتيان بالثمن كما مر. وهذه التزم في صلب عقد الإقالة إنه إن باعها فهو أحق بها والله أعلم. وعلى القول بصحة الإقالة فهل تبطل بموت المقال لأنها معروف كما مرّ عن ابن رشد وبه أفتى بعضهم. قال أبو العباس الملوي: ويظهر لي أنها لا تبطل بموته بل هي لازمة لورثته لأن الظاهر في المسألة أنها من باب الالتزام المعلق على فعل الملتزم له، وذلك لأن المقال التزم للمقيل أنه إن باعها فهو أحق بها على شرط أن يقبله فليست المسألة من باب التبرع المحض، وإنما هي من باب هبة الثواب. وقد ذكره في الالتزامات في التنبيه الثالث قبل الكلام على بيع الثنيا أن الالتزام على الفعل المعلق على فعل الملتزم له لا يبطل بالموت لأنه معاوضة، وتقدم قبل التنبيه المذكور: من التزم لغيره مالاً على أن يطلق زوجته لا يفتقر لحيازة وتقدم صدر الالتزامات قول ابن رشد: من التزم نفقة زوجة ولده في صلب العقد فإنها لا تسقط بموته، وتأمل قولهم: لا تفتقر النحلة إلى حيازة فالجاري على قواعد المذهب لزوم ذلك لورثته إن لم يحصل طول لأنه ليس بمعروف صرف حتى يبطل بالموت، وإنما هي معاوضة لأنه ما أقاله إلا ليلتزم، وأما ما ذكروه في الطوع بالثنيا من النزاع بين الفقيه راشد وغيره، فليس من هذا الباب لأن ذلك طوع بالإقالة لا شرط فيه. اهـ. باختصار من خطه رحمه الله، وإنما أطلت في هذه المسألة لكثرة وقوعها. ومن الفقهاء المهرة من يقول بصحة الإقالة فيها، ولاسيما وهو قول مالك وابن القاسم قال في الالتزامات بعد نقل قولي مالك وابن القاسم بالجواز، ونقل كلام ابن رشد واختياره ما نصه: الحاصل أن هذا الشرط لا يجوز في البيع ويفسده وليس في ذلك خلاف، وأما في الإقالة فاختلف قول مالك وابن القاسم بجوازه، ولذلك اقتصر عليه أي على جوازه الشيخ خليل في كلامه السابق في شروط النكاح، واقتصر عليه أيضاً غير واحد من الموثقين، والخلاف جار ولو كان في أمة فإن المسألة مفروضة في سماع محمد بن خالد فيمن يبيعه أرضه أو جاريته ثم يستقيله، ومقتضى كلامهم أن ذلك لا يوجب منع البائع من وطئها بعد الإقالة وهو ظاهر والله أعلم. اهـ. فكلامه هذا يفيد أن المعتمد في المسألة هو الجواز، ولذلك اقتصر عليه في ضيح كما قال: ولاسيما وقد ذكره في ضيح في معرض الاحتجاج على أن المرأة إذا وضعت شيئاً من صداقها خوف طلاقها فإن طلقها بالقرب رجعت بما وضعت وإلاَّ فلا. قال: كما قالوا إذا سأل البائع المشتري الإقالة فقال له المشتري: إنما مرادك البيع لغيري، فيقول له البائع: متى بعتها فهي لك بالثمن الأول أنه إن باع عقب الإقالة أو قريباً منها فللبائع شرطه وإن باع بعد طول أو لحدوث سبب فالبيع ماض. اهـ. ومثله لابن عبد السلام. ومعلوم أنه لا يحتج بمختلف فيه فقد نزلا القائل بالمنع منزلة العدم ولو كان القول بالمنع مشهوراً كما قال المازري ما صح لهما الاحتجاج، وقد علمت أنه في سماع محمد بن خالد ومثله لسحنون في سماعه عن ابن القاسم أيضاً وأنه قول مالك في سماع أشهب وابن القاسم أيضاً مستدلاً على جواز الإقالة المذكورة بمسألة الوضيعة للطلاق، وصحح استدلاله ابن رشد كما في الالتزامات وذلك كله من أدل دليل على أرجحيته. ولذا اقتصر عليه الناظم في فصل الإقالة، وكذا اقتصر عليه غير واحد من الموثقين، والاقتصار من علامات التشهير وعليه فاعتراض (ت) والشيخ بناني في حاشيتهما على (ز) الذي اعتمد الجواز في المسألة تبعاً للأجهوري بتشهير المازري، وبقول ابن رشد الذي يوجبه القياس، والنظر عندي أنه لا فرق بين الإقالة والبيع في هذا إلخ. لا يتم ولا يحسن لما علمت من قوة القول بالجواز وتحصيل (ح) يفيد أنه المعتمد، ولأن ابن رشد لم يقتصر على هذا، بل زاد واختار التفصيل الذي تقدم عنه، فاختياره قول ثالث كما مر، ولأنه لما تكلم على ما في سماع سحنون صحح الجواز وعضده، ولأن التحجير الذي في كلام المازري ينتفي بالطول الذي تنتفي معه التهمة فيمضي تصرفه أو لأنه مغتفر لجانب المعروف، ولأن (ح) لم يعرج على تشهير المازري في الالتزامات أصلاً، وكذا لم يذكره ابن عرفة ولا غيره، ولما نقل (ح) كلام المازري عند قول المصنف والإقالة بيع قال: والمسألة مذكورة في ابن عبد السلام وضيح وبهرام الكبير في فصل الصداق إشارة منه إلى أن الجماعة على خلاف تشهيره، وكذا المواق فإنه قال عند قول (خ): كان لا يبيع ما نصه الإقالة بيع فإن أقاله على أن لا يبيع فبينها وبين البيع على هذا الشرط فرق كالزوجة تضع مهرها على شرط أن لا يطلقها إلخ. فلم يعرج على تشهير المازري الذي نقله البرزلي مع أنه كثيراً ما ينقل كلامه، بل اعتمد في ذلك نص الرواية ولأنهم قالوا كما للشيخ طفي وغيره: إذا اتفق قول سحنون وابن القاسم لا يعدل عنه فكيف إذا وافقهما قول الإمام؟ ذكر ذلك في باب الزكاة، وبما لمالك في سماع أشهب أفتى سيدي أحمد بن عبد الوهاب الشريف حسبما في نوازل العلمي، وما كان يخفى على مثله ولا على غيره تشهير المازري والله أعلم.
وَحَيْثُمَا شَرْطٌ عَلَى الطَّوْعِ جُعِلْ ** فَالأَحْسَنُ الكَتْبِ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلْ

(وحيثما شرط على الطوع جعل) لو قال وحيثما الثنيا لسلم من التدافع الذي بين شرط وطوع قاله (ت) (فالأحسن الكتب) لذلك الطوع (بعقد مستقل) عن رسم البيع قاله ابن مغيث، والذي مضى عليه العمل أن يكتب في عقد الطوع بالثنيا على انفراده لأنه أبعد من المظنة وإن وقع ذلك في عقد الابتياع أي قبل تقييد الإشهاد وبعد وصف البيع بأنه لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار جاز ذلك. اهـ. ونحوه في المتيطية وابن سلمون. ثم إذا كتب ذلك الطوع في عقد مستقل أو في آخر رسم الابتياع وادعى أحدهما أن ذلك إنما كان شرطاً مدخولاً عليه والآخر أنه طوع حقيقي.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعٍ لِلطّوْعِ ** لا مُدَّعِيَ الشَّرْطِ بِنَفْسِ البَيْعِ

(فالقول قول مدع للطوع) بيمين وقيل بلا يمين للبينة التي قامت له وثالثها يحلف المتهم فقط (لا) قول (مدعي الشرط بنفس البيع) وأنهما دخلا على الثنيا في أصل العقد. هذا قول ابن العطار قائلاً لأن الأصل في العقود الصحة، وفي طرر ابن عات عن المشاور إن القول لمدعي الشرطية فيحلف ويفسخ البيع لما جرى من عرف الناس قال: وبذلك الفتوى عندنا. اهـ. ولذا اعترض الشارح هذا البيت على أبيه قائلاً: إن ابن العطار وقف مع قولهم أن القول لمدعي الصحة دون ما قيد من قولهم إلا حيث يغلب الفساد يعني وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد فيجب أن يكون القول فيها لمدعيه كما قال ابن الفخار. اهـ. ومما يرجحه قول ابن فرحون في تبصرته إذا اختلف المتبايعان في صحة العقد وفساده فالقول لمدعي الصحة إلا أن يكون جل أهل ذلك البلد أن معاملتهم على المكروه والحرام فالقول قول مدعي ذلك مع يمينه لأن استفاضة ذلك وشهرته في البلد صار كالبينة القاطعة والشهادة التامة وعلى مدعي الحلال البينة. اهـ. هو قول (خ) والقول لمدعي الصحة إلا أن يغلب الفساد. اهـ. وظاهر هذا أن الخلاف جار ولو نص في الوثيقة أن البيع وقع دون شرط ولا ثنيا ولا خيار وهو كذلك كما في البرزلي، ونقله العلمي أيضاً. وفي المعيار سئل ابن رشد عما يكتب من الشروط على الطوع والعرف يقتضي شرطيتها فقال: إذا اقتضى العرف شرطيتها فهي محمولة على ذلك ولا ينظر لكتبها على الطوع لأن الكتاب يتساهلون فيها وهو خطأ ممن فعله. وأجاب ابن الحاج بأن الحكم للمكتوب لا للعرف. اهـ. وعلى ما لابن رشد عول في اللامية حيث قال:
وشرط نكاح إن نزاع بطوعه ** جرى مطلقاً فاعمل على الشرط واعدلا

ولا مفهوم لنكاح، وبهذا كله يعلم ما في قول المتيطية إنه إذا قال في الوثيقة: دون شرط ولا ثنيا ولا خيار فمحل اتفاق أن القول لمدعي الطوع إلخ. بل الخلاف موجود كما ترى، وفي نوازل المجاصي أنه سئل عن هذه المسألة فأجاب: بأنه قد تكرر مني جواب بعد جواب غير مرة ولا أدري ما هذا، ورأيي فيها تابع لرأي بعض شيوخنا رحمهم الله، وأنه متى ثبت رسم الإقالة ولو بصورة التطوع فهو محمول على أنه شرط في نفس العقد، وقول المتيطي: ما لم يقل ولا ثنيا ولا خيار إلخ. ذلك عرف وقته إذ لا تعرف عامة زمننا الثنيا بل يسمونه بيعاً وإقالة، والشهود يجرون المساطير من غير تحقيق لمعنى ما يكتبون. اهـ. ونحوه في (م) و(ت) قالا: ويدل عليه أن البيع يقع بأقل من القيمة بكثير، فلولا أن البائع يعتقد أن ذلك بيد المشتري كالرهن ما رضي بذلك الثمن ولا بما يقرب منه. اهـ.
قلت: كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير مما يدل على أنه رهن، وأنه شرط في صلب العقد كما يأتي لا على أنه شرط في العقد فقط، ويؤيد ما نحن بصدده من أن القول لمدعي العرف ما يأتي للناظم في اختلاف المتبايعين:
فالقول قول مدع للأصل ** أو صحة في كل فعل فعل

ما لم يكن في ذاك عرف جار ** على خلاف ذاك ذو استقرار

ويؤيده أيضاً ما مر عن ابن سلمون عند قوله في بيع الأصول: وجاز في الدار أن يستثنى إلخ. أن المشتري إذا التزم أن لا يبيع حتى ينصف من الثمن فإن كان في صلب العقد فهو فاسد وإلاَّ صح فإن اختلفا في كونه في العقد أو بعده فالقول لمدعي الشرط لأنه العرف. اهـ. وظاهره ولو كتب على الطوع فهذا كله يدل على صحة اعتراض الشارح ومن تبعه على الناظم، ولذا قال ابن رحال في حاشيته هاهنا ما قال يعني (م) كله صحيح، وعليه المعول في هذه المسائل ولا محيد عنه أصلاً فإنه موافق لكلام المحققين. اهـ. ونحوه له في شرح المختصر.
قلت: هذا كله يؤيد ما مر في التنبيه الأول عند قوله: والبيع بالثنيا لفسخ داع إلخ. لأنه إذا كان العرف يجب اتباعه في هذه، وإن خالفه المكتوب فكذلك في تلك يجب اتباعه، وإن كتبوا أنها بيع لأن العرف أنهم يتحيلون بكتب البيع على إسقاط الغلة كما مر، وذلك كله إذا كانت الإقالة شرطاً في صلب عقد البيع كما مر، وكذا يقال: إذا كتبت طوعاً بعد العقد وادعى البائع شرطيتها فيه وأنها رهن كتبت بصورة البيع تحيلاً لإسقاط الغلة أو الحيازة فإنه يصدق حيث ثبت العرف بالشرطية والارتهان كما مر، ففي البرزلي ما نصه في أحكام ابن حديد: إذا ادعى البائع أن البيع كان في أصله رهناً فالذي نقول به إن المبتاع إن كان من أهل العينة والعمل بمثل هذا وشبهه، فالقول قول البائع مع يمينه أنه رهن ولا يخفى أن الناس اليوم على ذلك العمل من كونهم لا يتورعون عن اكتساب الأشرية بمكان الارتهان كما هو مشاهد بالعيان.
وفي المعيار عن أبي يوسف الزغبي ما نص: الغرض منه أن بينة البيع هي المعمول بها إلا أن تقوم بينة أن عرف البلد في البيع الذي يقع الحوز فيه بالمعاينة على الرهن، ثم تقع الثنيا بعده أنه رهن في كل ما يقع من ذلك ولا يشذ عن ذلك شيء فحينئذ يحمل الأمر على الرهن. اهـ. لكن قوله: ولا يشذ عن ذلك شيء إلخ. فيه شيء بل كذلك إذا غلب ذلك لأن الحمل على الغالب واجب، وفي نوازل السجتاني بعد ما مر عنه عند قوله: لفسخ داع إلخ. بأوراق أنه سئل عما يفعله أهل الجبال من ارتكابهم البيع الذي تعقبه الإقالة تحيلاً على إسقاط الغلة لو عقدوه بلفظ الرهن، وقصدهم في ذلك، إنما هو الرهن بهذا تقرر عرفهم فقال: حمل أمرهم على ما جرى به عرفهم واجب محتم في القضاء والفتوى لا مندوحة عن ذلك قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف} (الأعراف: 199) وإذا وجب حمل ما يعقدونه من الثنيا الطوعي على الرهن جرى في بيع ذلك على سائر بياعات الرهان من جواز بيعه بيد المرتهن بشرطه، والسكوت عنه السنين الطويلة لا يضر. اهـ. فتبين بهذا أن المدار على العرف فإذا جرى بالرهنية فالعمل عليها كانت الثنيا شرطاً في العقد أو طوعاً بعده ويدل على الرهنية المذكورة كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير، وأنهم يبيعونه وهو بيد مشتريه ويقولون: وضع ملكه بيد فلان إلى غير ذلك مما مر عن السجستاني و(م) وكفى به دليلاً على الارتهان المذكور. وتقدم أن ابن رحال صحح جميع ما في (م).
تنبيه:
ما تقدم من أن القول لمدعي الشرط والفساد محله إذا لم يكن قد أشهد في عقد الطواعية بإسقاط دعوى الفساد، وإلاَّ فلا يلتفت لدعواه ولو أثبتها ببينة لأنه قد كذبها قاله في أواخر بيوع المعيار، وأشار له (خ) ومحله أيضاً والله أعلم إذا لم يبعد ما بين التطوع بها والبيع كالأربعة أشهر ونحوها، وإلاَّ فينبغي أن تحمل على التطوع حقيقة حيث كان الثمن هو قيمة المبيع أو ما يقرب منها. وانظر ما تقدم عند قوله في النكاح: ويفسد النكاح بالإمتاع في عقدته إلخ.